قال الراوي: ما أكثر ما يتلطف بي القدر، فتنهمر عليّ شلالات نور خاطف بين الحين والحين، فإذا بي أجد نفسي محلقاً فوق الربى والحقول، بل فوق الدنيا، أنظر إليها من علٍ عالٍ! وحين أكون في لحظة التحليق تلك يهولني أن أرى النور مشرقاً يتلألأ في كل زاوية من هنا ومن ها هنا، حتى إني لأعجب كيف لم أكن أرى كل هذا الإشراق، لأكتب عنه شعراً، أو أعبر عنه نثراً؟
بل يخيّل إليّ ساعتها أنني لو رأيت ما رأيت، وأنا حيث كنت في موضعي من الأرض، لغدوت شاعراً فحلاً لا يُجارى، ولا يُبارى!
أخلف الشعراء ورائي، يجمعون ما يتساقط من زوّادتي، وأنا أمضي في حالة إنبهار بهذا النور الذي يتلألأ في كل مكان، والقوافي تتصارع على بوابة فمي، أيها يخرج قبل أختها!
في لحظة التحليق تلك، وأنا أرى ما أرى مما يهز الفؤاد طرباً، أتذكر على الفور قول القائل: كن جميلاً ترى الوجود جميلاً!
وعلى قدر ما يفرحني هذا القول، يحزنني بشدة حيث أقول لنفسي: وهل معنى ذلك أنني لم أكن جميلاً من داخلي، ومن ثم لم أكن أرى كل هذا البهاء والإشراق في هذا الكون الجميل.
عدت قبل ليالٍ إلى شيخي منكسر النفس، خائر الهمة، وكعادتي ما إن جلست إليه حتى شعرت أني دخلت جنة، ووجدت نعيماً، وهطلت على قلبي أمطار العافية، كل هذا قبل أن يقول شيئاً، ما أن أدخل في دائرة مغناطيسيته، حتى يجذبني بقوى عجيبة، إلى حيث يكون متسامياً في مراقٍ عالية، وشكوت إليه ما أجد، وما أشعر به مما جال في خلدي، من ذلك القول أو تلك الحكمة، فجاء حديث الشيخ قبساً من نور النور، وعطراً تنتشي له العطور، فكان مما قال وما أعجب ما قال، لكن يؤسفني أنني سأنقل حروف وكلمات الشيخ، أما روحه التي كانت تتحدث، ويترجم حديثها هذا اللسان، فذلك ما أعجز عنه، ومن ثم فهذا ترجمة لما قال، وليست حقيقة ما قال، وأين الترجمة من الأصل؟
قال: إن كان القائل يرى الوجود جميلاً لأنه جميل من داخله، فهو إنما يرى إنعكاس جمال قلبه فيما تقع عليه عيناه، فتهب على روحه نسائم السحر الحلال، فكأنه يرى ما لا حقيقة له، غير أن الأمر بالعكس من ذلك، فهو في لحظة الصفاء تلك إنجلت أغشية عن روعة الجمال التي يتغشى بها الكون، فأصبح يرى ما لا يراه الآخرون، وقد يعجبون منه، حين يحاول أن يعبر لهم عما يراه، ويسمعه، ويشمه! وما أكثر ما تقصر العبارة هنا.
وقال شيخي: وسنسلم جدلاً له بما قال، غير أنا نقول واثقين مما نقول: أنه قَصُرَ به الأمر، وكان النبع قريباً منه سيتفجر في روعة، لو أنه خطا بنا خطوة إلى الأمام، ولم يقف بنا حيث وقف، يا بني، وكانت تطربني هذه الكلمة كلما خاطبني بها، فأحسست بنشوة غير عادية، وأنا أتابع حديثه المتلألئ بالنور قال: قد يرى القلب في حالة صفاء، ولحظات شفافية أن إنعكاسات ما تراه عيناه تشع إبداعاً وبهاء وروعة، لكن الخطوة التالية والأرقى والأهم أن الكون يغدو أحسن منظراً، وأبهى جمالاً، وأروع إبداعاً، وأحلى زينة، حين تشع في أغوار القلب إشعاعات إيمانية قوية، تصله مباشرة بالسماء، وتشده بقوة إلى ربه سبحانه، فكأنما هو ينظر من كوة في السماء إلى الأرض وزخرفها وتعاجيب أهلها! يا بني، إن الفرق ما بين النظرتين عظيم وكبير وخطير؟ وبالمثال يتضح المقال: أرأيت إلى إنسان يحدق ملياً وبقوة ليرى في جهد بعينيه الكليلتين، ذرة من قطعة ألماس نادرة، وشخص آخر يتناولها ليضعها تحت مجهر كبير، فيراها مكبرة آلاف المرات! أي النظرتين هي الأوضح والأعجب والأمتع!
هذا مجرد تقريب لتعرف فرق ما بين النظرتين، وإلا فالأمر أبعد من هذا وأعجب! ولا أخالك إلا تسألني الآن: ولكن هذا نادر وقليل، ومنزلة تتكسر دونها الرقاب، ولا تبلغها الخيل المضمرة؟!
فاعلم يا بني فتح الله على قلبك أن ها هنا أمور عليك أن تجعلها منك على بال، لو كان الأمر كما تتوهم لما طالبنا الله به، ولا كلفنا بمحاولة الوصول إليه، لأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، ومن ثم فإن الأمر ميسور، ما دام التكليف مقدوراً عليه، تبقى همة الإنسان وجهده وجهاده وعزيمته، والناس ها هنا تتفاوت، هذه واحدة.
والثانية: ألا يكفي أن تبقى مشدود القلب إلى تلك الذرى، حولها تدندن، وإليها تشتاق، ونحوها تصبو، وحولها تطوف؟ فإن مت وأنت تحاول جاهداً الوصول إليها، فقد وقع أجرك على الله، وسيرفعك الله إلى مقام أهلها في جناته، حيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وأما الثالثة:
فقد قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: ليس بالضرورة أن يبقى الإنسان في هذه الحال أبداً، على مر أنفاس حياته، فمن الناس من تهب عليه مثل هذه النفحات بين الوقت والوقت، فذلك خير عظيم، وفضل كبير، وعلى هذا أن يواصل الطريق ليبقى مستمراً، فتدوم له هذه النفحات وتطول، أما من دامت له لأطول فترة ممكنة، فهذا عظيم في السماء، عظيم في الأرض!
والرابعة يا بني:
تذكر أن اللؤلؤ نادر وقليل، ولكن قيمته هي الأعلى والأرقى، وعليه يتنافس المتنافسون، أما الفحم فهو كثير مكدس، على قفا من يشيل كما يقال!
فكن لؤلؤة نادرة، واربأ بنفسك أن تكون فحماً من الفحم! وفي كل الأحوال حين تسير في هذا الطريق، فإنك أنت الرابح بكل حال، سواء وصلت أو لم تصل، ولا تزال تتلألأ على طول الطريق لأنك في معية خاصة مع الله جل جلاله، فاطلب الكمال، ودع الدون للدون!
إذا غامرت في شرف مرومٍ *** فلا تقنع بما دون النجوم
المصدر: موقع المختار الإسلامي.